لم يثر الجدلُ حول شخصية عالمية بمثل ما ثار حول شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، فقد اتصف الرجل بصفات قيادية فذّة أهّلته لأن يجعل من قضية الإسلام همّه الأول ومن إنقاذ الدولة العثمانية في عهدها الأخير من براثن الأعداء في الخارج ومن المتغربين في الداخل شغله الشاغل، وكان هذا سر الحملة الظاهرة التي شنّها الأعداء لتشويه صورته وتدمير قيادته التي كانت بمثابة خلافة المسلمين. لقد برهن السلطان عبد الحميد الثاني أنّه قادر على إدارة دفة الدولة في مرحلة من أخطر المراحل التي مرّت بها الدولة العثمانية، وقد أظهر هذا الرجل حنكة جعلته الرجل الذي أخّر سقوط الدولة العثمانية ربع قرن في وقت كان سقوطها أُمنية عالمية بدءًا باليهود والأقليات الحاقدة والدول الاستعمارية وانتهاء بالمنظمات والشخصيات التي تغلغلت في جسد الدولة العثمانية وأصابت منها مقتلاً
لقد تمتع اليهود في فلسطين التي كانت خاضعة للحكم العثماني، وفي أماكن أخرى بقسط وافر من الحرية الدينية،لم تكن من نصيبهم في أي بلد أوربي، ففي خلال الحكم العثماني لم تتخذ أي إجراءات رسمية تستحق الذكر تناهض اليهود أو تميز بينهم وبين السكان، بعكس ما ذاقوه من ألوان العذاب في معظم الدول الأوربية
استغل اليهود عطف الدولة العثمانية عليهم فانتهزوا الأوضاع التي كانت تمر بها الدولة العثمانية للضغط على السلطان عبد الحميد لإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، حيث كانت ديون الدولة حوالي 252 مليون قطعة ذهبية، وهو مبلغ كبير بمقياس ذلك العصر، وبرغم ذلك كان السلطان حريصًا طوال عهده على عدم الاستدانة من الخارج إلا في أضيق الحدود. وقف السلطان عبد الحميد الثاني ضد هذه الهجرات اليهودية بالمرصاد، وحاول منعها بكل ما أوتي من قوة، وكان قرارًا جريئًا منه في فترة كانت الدولة العثمانية يطلق عليها رجل أوروبا المريض، ورغم ذلك رفض كل الضغوط الدولية، والإغراءات اليهودية للسماح لهم بالهجرة إلى فلسطين
قام اليهود ببعض الهجرات إلى أرض فلسطين في عام 1881 و1882م - 1896م، واستطاعوا تنظيم بعض المستعمرات. حينئذ شعر السلطان عبد الحميد الثاني بهذا الخطر؛ فأبلغ المبعوث اليهودي أوليفانت أن باستطاعة اليهود العيش بسلام في أية بقعة من أراضي الدولة العثمانية إلا فلسطين. وأرسل السلطان مذكرة إلى متصرف القدس رءوف باشا يطلب منه أن يمنع اليهود الذين يحملون الجنسيات الروسية والرومانية والبلغارية من الدخول إلى القدس، كما أبلغ قناصل الدول الأوروبية في استانبول بقرار الحكومة العثمانية بمنع اليهود الروس خاصةً من استيطان فلسطين و بعدها أرسل تيودور هرتزل رسالة إلى السلطان عبد الحميد الثاني يعرض عليه قرضًا من اليهود يبلغ عشرين مليون جنيه إسترليني، في مقابل تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ومَنْح اليهود قطعة أرض يقيمون عليها حكمًا ذاتيًّا
وقد رفض السلطان عبد الحميد الثاني هذا العرض رغم احتياج الدولة العثمانية إلى الأموال، وردَّ على هرتزل قائلاً: "انصحوا الدكتور هرتزل بألاّ يتخذ خطوات جدية في هذا الموضوع؛ إني لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبر واحد من الأرض، فهي ليست مِلْك يميني، بل مِلْك الأمة الإسلامية التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها، فليحتفظ اليهود بملاينيهم، وإذا مزقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن. أما وأنا حيٌّ فإنّ عمل المِبْضَع في بدني لأهون علىّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من الدولة الإسلامية، وهذا أمر لا يكون؛ إني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة

من أهم أعمال السلطان عبد الحميد ولعله السبب الحقيقي وراء عزله من منصبه، وهو تصديه الشجاع والجريء لمحاولات اليهود المستميتة لشراء فلسطين، وقيام يهود الدونمة فى تركيا بالتعاون مع الصهيونية العالمية من أجل التخلص من هذا السلطان الشجاع، وذلك عن طريق تحريض حركة الاتحاد والترقي القومية بتدبير أحداث الشعب والفتن التي أدت لخلعه في النهاية سنة 1327هـ ـ 1909م، وقد بقي رهين قصره في إستانبول حتى مات في 29 ربيع الآخر 1336هـ الموافق 10 فبراير 1918، بعد أن رأى بعينيه ما جرى للدولة على يد خلفائه الاتحاديين في الحرب العالمية الأولى .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق